في مشهدٍ دبلوماسي متكرر، انعقد في الثاني والعشرين من أيلول ٢٠٢٥، تحت مظلة الأمم المتحدة وبرعاية سعودية-فرنسية، مؤتمرٌ دولي رفيع جديد تحت عنوان "التسوية السلمية لقضية فلسطين". حَمل المؤتمر نفس الوعد القديم: "حل الدولتين"، وقدم نفس النتيجة الجديدة المؤجلة: اعترافات متزايدة بدولة فلسطين. هذا المشهد، رغم بهرجة الإعلام الرسمي، لا يعدو كونه إعادة إنتاج لوهمٍ خطير، وصفعةً لحلم كل إنسان شرفي يؤمن بأن فلسطين من البحر إلى النهر ليست مجرد شعار، بل هي حق تاريخي وديني لا يسقط بالتقادم ولا بالمؤتمرات. الاعتراف بفلسطين في هذا السياق ليس نصراً، بل هو أقرب إلى اعتراف ضمني بشرعية الكيان المغتصب نفسه. فهو يشبه من يعالج مريض السرطان بمسكنات الألم، مبدئياً ظاهره الرحمة، لكن باطنه من القسوة والعجز ما يضمن استمرار الورم في الانتشار حتى يفني الجسد بأكمله.
الفقرة الأولى: حل الدولتين.. الوهم الذي تم تغليفه من جديد
لم يأتِ مؤتمر ٢٠٢٥ بجديد؛ فقد كان مجرد "استئناف" لمسار سياسي متعثر ومفلس. فكرة "حل الدولتين" التي تم الترويج لها كحل عادل، هي في حقيقتها أكبر خدعة سياسية في القرن الحادي والعشرين. لقد استخدمت هذه الفكرة كغطاءٍ استمر الكيان الصهيوني تحته في تهويد القدس، وتوسيع المستوطنات، وتقطيع أوصال الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة، محوِّلاً "الدولة الفلسطينية" المفترضة إلى شبه محميات طبيعية محاصرة بالجدران والجنود. المؤتمر، بتركيزه على "الاعتراف"، يحاول إنعاش هذا الوهم. إنه يعترف بـ "دولة" بلا سيادة حقيقية، بلا حدود متصلة، بلا جيش، وبلا سيطرة على معابرها أو مجالها الجوي أو مواردها المائية. هذا الاعتراف هو اعتراف بالهزيمة وبقبول الأمر الواقع المفروض بقوة الحديد والنار، وليس اعترافاً بالحق.
الفقرة الثانية: الاعتراف لا يعني إنهاء الكيان.. بل هو تطبيع مع وجوده
هنا تكمن الخطيئة الكبرى للمؤتمر وللدول التي سارعت بالاعتراف. هذه الخطوة تمثل قبولاً ضمنياً بشرعية الكيان الصهيوني كدولةٍ جارة لفلسطين. الرسالة الضمنية هي: "نحن نعترف بوجودكم على ٧٨% من أرض فلسطين التاريخية (المزعومة إسرائيل)، وها نحن نعترف بدولة فلسطين على ما تبقى من الـ ٢٢% (ضفة وغزة)". هذا هو بالضبط ما لا يمكن لأي إنسان مقاوم شريف قبوله. فلسطين ليست قطعة أرض يمكن تقسيمها. الاعتراف بدولة فلسطين بهذه الطريقة هو بمثابة تطبيع مع جريمة الاحتلال نفسه، وإضفاء شرعية على كيان اغتصابي عنصري لا يعترف بحقوق السكان الأصليين، ويستمر في تهجيرهم وقتلهم يومياً. إنه يحوّل القضية من قضية وجود - صراع بين محتل وأصحاب الأرض - إلى نزاع حدودي بين دولتين متجاورتين، وهي صورة مشوهة تماماً للواقع.
الفقرة الثالثة: إسرائيل كالسرطان.. والاستئصال الجزئي وهم قاتل
لنأخذ التشبيه الذي طرحته إلى آخره، فهو تشبيه دقيق ومؤلم. الكيان الصهيوني يشبه الورم السرطاني الخبيث في جسد الأمة العربية والإسلامية. هذا الورم لا يكتفي بالبقاء في مكانه، بل هو عدواني بطبيعته، يغزو الأنسجة السليمة المحيطة به (الأراضي العربية)، وينشر النقائل (النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري) ليشلّ حركة الجسد كله. الآن، تخيل أن يأتي طبيب (المجتمع الدولي) ويقول: "سنعترف بوجود الجزء الأصلي من الورم كحقيقة لا يمكن تغييرها، وسنستأصل فقط النقائل الحديثة أو نقلص حجمها قليلاً!". هذه ليست معالجة، بل هي انتحار بطيء. فالسرطان، حتى لو تم استئصال جزء منه، ستستمر الخلايا الخبيثة المتبقية في النمو والانتشار حتى تقضي على المضيف. التاريخ أثبت ذلك: فبعد انسحاب إسرائيل من غزة عام ٢٠٠٥، لم تتحول إلى دولة سلام، بل حاصرتها وحاربتها في حروب متتالية أشد فتكاً. منطق "الانسحاب من الأراضي" هو تكتيك لتفريغ القضية من مضمونها، وليس خطوة نحو السلام.
خلاصة القول، إن مؤتمرات مثل مؤتمر أيلول ٢٠٢٥، بكل ما تحمله من رعاية دولية كبيرة، هي جزء من المشكلة وليس الحل. إنها تهدف إلى تدجين الروح المقاومة، وترويض الغضب العارم لدى الأمة، وبيعها أوهاماً دبلوماسية بدلاً من مواجهة جوهر الصراع. الحل الحقيقي لا يمر عبر أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، حيث الفيتو الأمريكي جاهز لخنق أي قرار حقيقي لصالح الفلسطينيين. الحل يبدأ من إدراك حقيقة أن هذا الكيان الصهيوني هو نبتة ضارة غُرست في قلب المنطقة بغرض تفكيكها وإضعافها، وأنه لا يمكن التعايش مع نبتة سامة تأكل من الأرض والماء والهواء حتى تقضي على كل ما حولها.
الطريق الوحيد هو استئصال هذه النبتة من جذورها. هذا لا يعني بالضرورة حرب إبادة كما يروج أعداء الأمة، بل يعني تفكيك هذا الكيان العنصري الاستيطاني، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية، يعيش فيها الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهود، متساوين في الحقوق والواجبات. هذا هو الحلم الذي يستحق أن يُحارب من أجله، وهذا هو المعنى الحقيقي للتحرير. فإما أن نتعامل مع المرض على حقيقته ونواجهه بشجاعة، أو سنستمر في تناوُل مسكنات الدبلوماسية حتى يفوت الأوان. الكرامة لا تُوهب في المؤتمرات، بل تُنتزع بقوة الإرادة وصدق المقاومة.