في كل دورة انتخابية عراقية، تتكرر الدعوات إلى مقاطعة صناديق الاقتراع، بدعوى أن العملية السياسية عقيمة أو أن النتائج محسومة مسبقاً. هذه الدعوات، رغم ما قد تحمله من إحباط مفهوم عند بعض المواطنين، تمثل في حقيقتها موقفاً سلبياً خطيراً، يتجاوز حدود الاحتجاج ليصل إلى مستوى التفريط بالحقوق السياسية والوطنية.
سلبيات المقاطعة
المقاطعة ليست حلاً، بل تعني عملياً ترك الساحة فارغة أمام القوى الأكثر تنظيماً وانضباطاً، وهي في العادة نفس الأحزاب التقليدية التي يُراد محاسبتها. بهذا المعنى، فإن من يقاطع يسهم ـ من حيث لا يدري ـ في منح الفاسدين فرصة جديدة للبقاء في الحكم.
إضافة إلى ذلك، فإن ضعف نسبة المشاركة يضعف شرعية العملية السياسية نفسها، ويجعل القوى النافذة أكثر قدرة على الالتفاف على الإرادة الشعبية. كما أن المقاطعة تكرّس ثقافة اليأس والاستسلام، وتغلق الباب أمام أي إصلاح تدريجي قد يتحقق عبر صناديق الاقتراع.
البعد الأخطر: تدخل خارجي ومعادلة مختلة
الأمر لا يقف عند حدود السلبية الداخلية، بل يتعداه إلى البعد الخارجي. فالولايات المتحدة وأذرعها الإعلامية والسياسية تعمل منذ سنوات على تثبيط الشارع الشيعي بالذات عن المشاركة، بهدف تقليل وزنه الانتخابي. في المقابل، تسعى القوى السنية والكردية بحماس إلى حشد جماهيرها ودفعها للمشاركة بكثافة.
ولتوضيح الصورة، تكفي العودة إلى أرقام الانتخابات السابقة:
• في انتخابات ٢٠١٨، لم تتجاوز نسبة المشاركة العامة ٤٤%، بينما كانت النسبة في المناطق الشيعية أقل من ذلك بكثير بسبب المقاطعة، الأمر الذي سمح بصعود قوى لم تكن لتصل لولا هذا العزوف.
• في انتخابات ٢٠٢١، هبطت المشاركة أكثر إلى حدود ٤١% فقط، ومعها خسر الشيعة عدداً من المقاعد المهمة لصالح كتل سنية وكردية شاركت بقوة أكبر.
هذه المعادلة تنذر بخطر استراتيجي جسيم: خسارة المكوّن الشيعي لأغلبيته السياسية في البرلمان، وبالتالي فقدان القدرة على حماية استحقاقاته، وتراجع دوره المركزي في رسم السياسات الوطنية. إنّ المقاطعة هنا لا تعني فقط فقدان صوت فرد، بل قد تعني ضياع ثقل مكوّن كامل، وفتح الباب واسعاً أمام مشاريع خارجية لإعادة تشكيل التوازنات السياسية بما يتناسب مع مصالح واشنطن وحلفائها.
الانتخاب أداة إصلاح لا مجرد واجب
في ظل هذه التحديات، يصبح الانتخاب فعلاً إصلاحياً مقاوماً بحد ذاته، متى ما أحسن المواطن استخدامه. فالتصويت ليس مجرد روتين، بل هو فرصة لاختيار المرشحين النزيهين والكفوئين، ومعاقبة الفاسدين، وإيجاد وجوه جديدة قادرة على كسر احتكار القوى التقليدية. المشاركة الواعية تفرض على الأحزاب أن تحسب حساباً لصوت الشعب، وتُبقي العملية السياسية خاضعة لمبدأ التوازن والرقابة الشعبية.
الخلاصة
إن الدعوة إلى المقاطعة قد تبدو شكلًا من أشكال الاعتراض، لكنها في الواقع أداة خطيرة لتكريس الفساد وتعميق التدخل الخارجي، ووسيلة لفقدان المكوّن الشيعي ثقله السياسي. أما المشاركة الواعية فهي الطريق الأجدى نحو الإصلاح التدريجي وحماية التوازن الوطني. فالإصلاح لا يأتي من الانسحاب وترك الميدان، بل من البقاء فيه واستخدام الصوت كوسيلة للتغيير.