إنّ كثرة القضايا والأسئلة التي تتزاحم في عقولنا ، تكشف عن( حاجةٍ ماسّة إلى البحث والتأمل والفهم العميق) . فنحن أمام واقعٍ معقّد، يفرض علينا أن نتوقف عند تساؤلاتٍ جوهرية، لا يمكن تجاوزها أو تركها معلّقة بلا جواب. ومن هنا تأتي أهمية العودة إلى الدراسات المرجعية والأعمال الفكرية الرصينة التي تسعى للإجابة على هذه الأسئلة، أو على الأقل تفتح أمامنا أفقًا أوسع لفهم ما يجري من حولنا. وفي هذا السياق يبرز كتاب "مباحث في القانون والعلاقات الدولية" للمفكر والأكاديمي السيد مجيد الكفائي، بوصفه محطةً فكريةً جادة تتيح لنا تفكيك كثير من الغموض المحيط بالنظام العالمي وتوازناته الدقيقة.
كتاب "مباحث في القانون والعلاقات الدولية" للسيد "مجيد الكفائي" يفتح أمام القارئ أبواب فهم معمّق للنظام الدولي في آن واحد بوصفه مساحة للقواعد القانونية، وبوصفه حلبة لصراعات النفوذ والمصالح، يمتد الكتاب من جذور (المبادئ المؤسسة للنظام الدولي)، إلى تفرعاتها المعاصرة، فيقرب من القارئ مقولات "السيادة وعدم التدخل وقواعد المعاهدات"، ويفسح المجال أمام تفسير كيف تتحول نصوص الأحكام القانونية إلى "أدوات عملية في يد الفاعلين السياسيين" . في سرده يظهر المؤلف مدققًا في الاشتغال النظري متماسك المآخذ دقيق التطبيق قادراً على جمع مادة قانونية جافة، مع تأويل سياسي حيوي، يجعل النص ذا بعدين يتقاطع فيهما البحث النظري مع ضغوط الواقع. يبدي المؤلف اهتمامًا واضحًا بالقانون الدولي الإنساني، وبالتزامات المجتمع الدولي تجاه الحماية الإنسانية في حالات النزاع، فيعرض القواعد التي صيغت لحماية المدنيين واللاجئين ويعالج أطر المساءلة ومسارات تطبيق المعايير، غير أنه لا يكتفي بالبعد "القيمي" بل يتقصى مسارات التحول من قاعدة إلى ممارسة، موضحًا كيف تُوظف المعايير الدولية كأداة شرعنة أو كوسيلة ضغط سياسي بحسب موازين القوى والقدرات. بهذا يتجاوز العمل حدود النقد النظري إلى قراءة تاريخية-وظيفية لآليات التشكل والتطبيق في بيئات سياسية متباينة. على امتداد فصوله يعرّج (الكفائي) على دور المؤسسات الدولية الكبرى، وسلطة القواعد عبر محاكم دولية ومنظمات متعددة الأطراف، ويكشف عن ثغرات في أنظمة الإنفاذ وتضارب المصالح بين مبادئ (المساواة والسيادة) من جهة وضرورة حماية الحقوق من جهة أخرى، كما يقف عند محطات تفاعل "القانون الوطني" مع الالتزامات الدولية، مشيرًا إلى أن التشريعات المحلية ليست محض مرايا لالتزامات دولية ، بل "ساحات تُعاد فيها صياغة القواعد وتُعيد توزيع الفاعلية بين الأطراف" . هذا المزج بين وصف الآليات وتحليل سياقات انزلاقها يجعل الكتاب ذا فائدة عملية للدبلوماسي والمشرع والباحث على حد سواء. لا يغفل النص عن التحديات المعاصرة التي تعيد تشكيل ملامح النظام العالمي ، من (الإرهاب العابر للحدود إلى آثار التغير المناخي وظهور فواعل غير حكومية ذات قدرة على التأثير) ، فيتعامل "المؤلف" مع هذه القضايا بمنهجية تقترح تحديث أطر التعاون الدولي وتطوير آليات قانونية قادرة على الإمساك بتعقيدات العصر، مع تقديم رؤى قابلة للتطبيق تستند إلى قراءة واقعية للموازين والسياسات. يقدّم الكتاب( خارطة طريق منهجية للتعامل مع مشكلات معاصرة دون أن يغرق في أحكام تطرفية بل محافظًا على توازن بين الطموح والنقد البنّاء) . تزداد أهمية هذا العمل عند وضعه في السياق العربي، إذ يمنح التحليل منظورًا محليًا لا يندثر خلف قوالب المرجعيات الغربية بل يقرأ تأثير الصراعات الإقليمية والداخلية على الموقف العربي الدولي، ويعرض أمثلة وتفريعات تُظهر كيف أن تداخل الواقع السياسي الإقليمي يعيد تشكيل أجندات الدول ويؤثر في قدرة المؤسسات على النفاذ إلى ممارسات فعّالة. هذا البعد الإقليمي يثري المعرفة الأكاديمية ويمنح صناع القرار أدوات فهم أعمق لسياقات اتخاذ القرار في منطقتنا.
لا يمكن اعتبار "مباحث في القانون والعلاقات الدولية" مجرد مرجع أكاديمي معزول فهو مشروع فكر متكامل يجمع بين "الدقة التحليلية والالتزام بالقضايا الإنسانية والسياسية"، ويمنح القارئ أدوات معرفية لفهم ديناميات النظام الدولي وقراءة تحوّلاته المستقبلية بعيون نقدية واعية، كتاب (مباحث في القانون والعلاقات الدولية) ، يستدعي التوقف والتأمل لمن يريد أن يفهم كيف تُكتب القواعد وكيف تُصاغ السياسات وكيف تتشابك القيم مع المصالح في عالم لا يتوقف عن إعادة تعريف نفسه.