في كل منعطف إقليمي أو مواجهة عسكرية دولية، يتكرر المشهد ذاته في العراق، قنوات فضائية ممولة من الخارج تُطلق صفارات الإنذار قبل أن يُسمع دويّ الرصاص، ومحللون سياسيون يتنقلون بين الاستديوهات كأنهم مبعوثو الغيب، يتقمصون دور الكهنة والعرافين الذين يتوعدون العراق ونظامه السياسي بعواصف كبرى، أمنية وسياسية، حارقة مارقة، سيُقال عنها لاحقاً إنها ستؤدي إلى هروب الساسة وفرارهم من البلاد. والمفارقة أن نبوءاتهم هذه لا توجه إلى الجميع، بل تُصاغ بعناية لتطال (الإطار التنسيقي) حصراً، في محاولة لتصويره كحامل أزمة وكأنه الحلقة الأضعف في المعادلة السياسية، بينما يُستثنى الشركاء الآخرون من دائرة الاتهام والوعيد.
إنها صناعة الخوف المستعار، التي لا تقل خطورته عن أي تحدٍّ أمني أو اقتصادي، لأنها تزرع في وعي المواطن أن الدولة هشّة، وأن مؤسساتها على وشك الانهيار، وأن النظام السياسي برمته مجرد بناء كارتوني ينتظر أول عاصفة كي يسقط. وهكذا يُختزل العراق، بتاريخِه وتجربتِه وطاقاتِه، إلى صورة بلدٍ عاجز عن الصمود، بينما الواقع يروي حكاية مختلفة تماماً.
فهذا البلد الذي اجتاز حروباً كبرى، واحتلالاً مباشراً، وتصدعات داخلية موجعة، لم ينهار ولم تُمحَ معالمه السياسية، بل ظلَّ قادراً على إعادة إنتاج نفسه والتكيّف مع أكثر الظروف قسوة. والدليل الأبرز على ذلك ما حققه العراقيون من نصر تاريخي حين تمكن الحشد الشعبي، جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة، من دحر تنظيم داعش الإرهابي الذي كان يمثل أخطر قوة عسكرية وعقائدية في المنطقة، وهو نصر أثبت للعالم أن العراقيين قادرون على مواجهة أي قوة، مهما بلغت شراستها أو عقيدتها المتطرفة، وحماية دولتهم من الانكسار.
ثانياً: الوقائع الاستراتيجية – أين يقف العراق فعلاً؟
في قراءة متأنية لـحرب ١٢ يوماً (١٣–٢٤ حزيران/يونيو ٢٠٢٥) بين إيران والكيان الإسرائيلي، يتضح أنها شكلت مواجهة عسكرية ذات تداعيات إقليمية واسعة، لكنها لم تؤدِ إلى انهيار أنظمة المنطقة أو تعطيل آليات الحكم في دول الجوار. العراق بدوره تعامل مع تلك الجولة بحسابات دقيقة، إذ لجأت بغداد إلى خطوات دبلوماسية ورسمية مثل الإدانة، والدعوة إلى جلسة أممية، وضبط الأجواء الجوية قدر المستطاع، في محاولة لتفادي الانزلاق إلى اشتباك مباشر. وفي الوقت نفسه، التزمت الفصائل المسلحة ذات الصلة بإيران قدراً كبيراً من الحذر ولم تنخرط في ردود فعل ميدانية واسعة، مدفوعة بعوامل تكتيكية وسياسية داخلية وخارجية.
إذاً لماذا هذه السرديات المتطرفة غير الواقعية، في حال حدوث اي مواجهة مستقبلية؟
١- الخلط بين الحدث والنتيجة.
ليس من المنطقي افتراض أن أي مواجهة إقليمية أو تصعيد عسكري قادم سيؤدي آلياً إلى تفكك الدولة العراقية أو تعطيل استحقاقاتها السياسية. قراءة السياسة الواقعية تُظهر أن مؤسسات الدولة ما زالت قادرة على العمل، وأن النخب تمتلك قنوات تفاوضية لإدارة الأزمات، كما أن وجود مصالح متشابكة محلية وإقليمية يجعل من تفكك النظام السياسي خياراً بالغ الكلفة على جميع الأطراف.
٢- تماسك البنية السياسية.
النظام السياسي في العراق بعد عام ٢٠٠٣ ارتكز على معادلة تقاسم السلطة وتوازنات دقيقة بين المكونات. وبرغم ما يُسجَّل على هذه الصيغة من مثالب ومواضع ضعف، إلا أنها أظهرت في محطات الأزمات قدرة واضحة على امتصاص الصدمات ومنع الانهيار المؤسساتي. لقد أثبتت التجربة أن النخب السياسية العراقية، مهما بلغ حجم خلافاتها وتباين مصالحها، تدرك جيداً أن أي انهيار شامل للنظام يعني خسارة جماعية لا يخرج منها أحد رابحاً. ومن هنا، فإن تماسك البنية السياسية لم يعد خياراً ظرفياً بل أصبح شرطاً ضرورياً لاستمرار العملية السياسية وضمان بقاء الدولة ومؤسساتها فاعلة
٣- عقلانية الفاعلين المحليين.
لم تعد الفصائل المسلحة في العراق تُختزل في كونها أدوات لتنفيذ أجندات إقليمية فحسب؛ إذ تطورت لتصبح جزءاً من المشهد السياسي والاقتصادي المحلي، متشابكة المصالح مع الدولة والمجتمع على حد سواء. هذا التشابك جعل خيار الانخراط في مواجهة مفتوحة ضرباً من المجازفة التي قد تهدد وجودها ومكتسباتها معاً. ومن هنا يمكن فهم سلوكها خلال (حرب الـ١٢ يوماً)، حينما لجأت إلى رفع سقف خطابها الإعلامي، لكنها في الميدان التزمت بحدود محسوبة، تجنباً لأي تصعيد غير مدروس يخلّ بتوازناتها الداخلية ويضعها في مواجهة مباشرة مع استحقاقات لا تستطيع تحمّلها.
ثالثاً: تفنيد نقاط شائعة للرعب الإعلامي.
إلغاء الانتخابات وانهيار النظام غداً: هذا سيناريو ممكن نظرياً في حالة انهيار شامل، لكنه غير مرجّح بفعل توازنات القوى الحالية، مصالح الحلفاء الإقليميين والدوليين، وضغوط الشارع على نخب تحافظ على المؤسسات ولو بطرق غير نقية. وتحويل العراق إلى ساحة حرب مفتوحة بين قوى إقليمية، هذه ليست نتيجة حتمية، بأن العراق معرض للانزلاق، باعتباره امتلك في تجاربه الأخيرة أدوات امتصاص سياسية ودبلوماسية وأمنية لمنع ذلك حتى الآن. وفقدان السيادة بالمعنى الرمزي فقط ليس نتيجة مباشرة لحدث خارجي واحد، هو نتاج تراكمات سياسية واقتصادية داخلية طال أمدها. وهنا تكمن مسؤولية الدولة في استعادة الخطاب والسياسات إلى أرض الواقع.
رابعاً: الانتخابات… ركيزة الاستقرار وشرعية النظام.
المسار السياسي في العراق يتكئ على ركيزة أساسية هي الانتخابات الدورية التي تمنح الشرعية للنظام وتعيد إنتاج السلطة وفق الأطر الدستورية. إن أي تعطيل أو تأجيل لهذا الاستحقاق لا يعني فقط إرباك المشهد السياسي، بل يفتح الباب لفراغ دستوري خطير يقوّض التجربة الديمقراطية برمّتها ويضع النظام السياسي في مهبّ المجهول. لذلك، فإن المضي في مشروع الانتخابات البرلمانية ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة استراتيجية لحماية الدولة من الانزلاق إلى فوضى دستورية، ولمواجهة روايات الإعلام المهوِّل التي تراهن على تعطيل العملية السياسية.
خامساً: أثر التضخيم الإعلامي على المجتمع.
الروايات المبالغ بها لا تضرّ بالخطاب السياسي فحسب، بل تولد آثاراً مادية على المجتع، منها نزوح مؤقت للاستثمارات المحلية والاجنبية، وهبوط السياحة (إن وُجِدت)، والتقلبات الاقتصادية في الأسواق المحلية، وزيادة الطلب على السلع الأساسية ما يؤثر على الأسعار والقدرة الشرائية للمواطن. والأهم من ذلك أنها تضعف الشعور بالثقة بالدولة وتجعل المواطنين أكثر عرضة للتشنّج الاجتماعي، وهو ما يناسب أطرافاً تسعى إلى كسب هامش سياسي أو اقتصادي عبر الفوضى، لذلك على الدولة أن تتعامل مع هذا (الضجيج الاعلامي) بعزم وتحدي وذلك من خلال الطرق القانونية التي تؤمن وتحصن السلم المجتمعي.