عنف صلاح الدين وبطشه
ما أن قويت سلطة صلاح الدين على الخليفة الفاطمي العاضد، واستتبّ له الأمر في مصر بعد التآمر عليه وقطع الخطبة له وإقامتها لبني العباس، حتى أقدم صلاح الدين على جريمة لم يسبق لحاكم أن أقدم على مثلها أبداً، حتى في أشد العصور طغياناً وهمجيةً وظلماً(18)، (فقد احتجز جميع رجال الأسرة الفاطمية في مكان، واحتجز جميع نسائها في مكان آخر، ومنع الفريقين من الزواج لئلا يتناسلوا...) يقول العماد: (وهم إلى الآن محصورون محسّرون لم يظهروا)(19)، ثم أعمل النهب والسلب في دورهم وقصورهم، وقد تبجح بهذه الأعمال شعراء صلاح الدين، ومن ذلك ما قاله العماد الأصفهاني في قصيدة بذيئة طويلة:
عاد حريم الأعداء منتهك الحمى وفيء الطغــاة مقتَسَمـــا
ثم عمد صلاح الدين إلى المذهب الجعفري فأبطله وحرّم تدريسه ومنع الناس من العمل به، ومال على أشياعه وأتباعه فأوقع فيهم القتل والحرق والتشريد، وقد وصف عبد الرحيم بن علي البيساني قاضي صلاح الدين، الملقب بالقاضي الفاضل، ولم يكن في الواقع فاضلاً، بل كان من الوصوليين الانتهازيين المنافقين، عبيد كل سلطة، وعملاء كل حكومة، وصف وضع الشيعة بعد العاضد بقوله: (... والمَذَلَّة في شيع الضلال شائعة، ومُزِّقوا كل ممزَّق، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريداً وقتلاً)(20).
ومن الذين قتلهم صلاح الدين، وحفظ لنا التاريخ أسماءهم رغم كل محاولات الطمس والإخفاء، الشاعر عمارة اليمني، الذي عاش في مصر وأدرك أواخر الدولة الفاطمية، ورغم أنه لم يكن على مذهب الفاطميين، ولكنه كان منصفاً مخلصاً للحق، معترفاً بالفضل لأهله، وحيث أنه رأى بأم عينيه فضائل الفاطميين ومحاسنهم، ولمس بنفسه مخازي الأيوبيين ومساوئهم، وما ارتكبوه فيهم من جرائم، فرثى الدولة الفاطمية أشجى رثاء في قصيدته اللامية التي مطلعها:
رميتَ يا دهرُ كفَّ المجدِ بالشللِ وجيدَه بعد حسن الحَلْيِ ِ بالعطَلِ
وختمها بقوله:
والله مازِلتُ عن حبي لهم أبـداً ما أخّرَ اللهُ لي في مدة الأجـــلِ(21) وبسبب هذه القصيدة الصادقة، قُتِلَ هذا الشاعر الفاضل الوفي يرحمه الله، الذي طبع على النبل والوفاء، وتُمُحلت له الذنوب(22).
وفي موقف آخر، اتفق أن اجتمع هذا الشاعر الوفي،عند نجم الدين أيوب – والد صلاح الدين - مع شاعر آخر، هو أبو سالم يحيى الأحدب بن أبي حصيبة، في قصر اللؤلؤة الذي كان يقيم فيه، وكان من أحسن قصور الفاطميين، فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين قصيدة منها:
يا مالك الأرض لا أرضى لها طرفاً منها وما كان منها لم يكن طرفــــا
قـد عجّل الله هذي الدار تسكنهــــا وقـد أُعدّت لك الجنات والغرفـــــا
تشرفت بـك عمـن كان يسكنهــــــا فالبس بها العز ولتلبس بك الشرفا
كانوا بها صَـدفاً والـدار لؤلـــــــؤةٌ وأنت لؤلؤةٌ صـارت لها صـَدفــــــا
فعزّ على عمارة هذا الغمز بالفاطميين، ولم يسكت على هذا الغمط لحقهم، والغض من مكانتهم، فقام يرد عليه بكل جرأة وشجاعة قائلاً:
أثمتَ يا من هجا السادات والخُلَفا وقلـتَ ماقلتَه فـي ثلبهم سـخَـفا
جعلتَهم صـدفاً حَلّوا بلـؤلـؤةٍ والعُرفُ مازال سُكنى اللؤلؤ الصدفـا
وإنما هـي دارٌ حـلّ جوهرهم فيها وشـفّ فأسـناها الـذي وصفـــــا
إلى آخر هذه القصيدة الارتجالية الرائعة، التي علّق عليها المقريزي بقوله: (فلله دَرُّ عمارةَ، لقد قام بحق الوفاء، ووفّى بحسن الحفاظ كما هي عادته، لا جرم أنه قُتل في واجب من يهوى، كما هي سنّة المحبين، فالله يرحمه ويتجاوز عنه)(23).
على أن أفجع الفواجع ما لحق خزانة الكتب، التي (كانت من الضخامة بحيث أنها ضمّت (600) ألف كتاب مخطوط، ثم ما لبثت أن أُنشئت دار الحكمة القاهرية، وهي لم تكن أرففاً لاحتواء الكتب فقط، ولكنها كانت تضم جيوشاً من المترجمين والعلماء والنسّاخين، وكانت بذلك جامعة متخصصة لإنتاج الكتب)(24)، هذه الكنوز العلمية من نفائس الكتب التي تعب الفاطميون في جمعها، وأنفقوا من الأموال ما أنفقوا في الحفاظ عليها، أصابها من صلاح الدين ما أصاب الفاطميين أنفسهم، ومثلما شهد العصر الفاطمي ازدهار المكتبات القاهرية، شهدت بداية عصر صلاح الدين انهيارها بفعل النهب والحرق واللامبالاة(25).
يصف الدكتور محمد كامل حسين كيف أُحرق ورقُ كتب هذه المكتبات، وأخذ العبيد والإماء جلودها لعمل ما يلبسونه في أرجلهم، والذي بقي فيها مما لم يحرق، سفت عليه الرياحُ الترابَ، فصارت تلالاً باقية تعرف بتلال الكتب(26)، ثم يقول: (وكذلك ضاعت كنوز الفاطميين بيد التعصب الممقوت)، ويختم كلامه بالقول: (ولكن هذه الموجة الفنية التي طغت على مصر، سرعان ما أبادها الأيوبيون فيما أبادوه من تراث هذا العصر الذهبي في تاريخ مصر الإسلامية، فضاع الشعر ولم يبق منه إلاّ اسم الشاعر أحياناً إن قُدِّر لاسمه البقاء، ونحن لا نتردد في اتهام الأيوبيين بجنايتهم على تاريخ الأدب المصري، لتعمدهم أن يمحوا كل أثر أدبي يمت للفاطميين بصلة، فقد أحرقوا كتبهم بما فيها من دواوين الشعر)(27)، فإذا كان هذا فعلُهم في الشعر، فما بالك بما فعلوا في الفكر؟!.
ويقول ابن أبي طي في وصف ما حلّ بهذه المكتبة الكبرى: (ومن جملة ما باعوا خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا)(28)، لأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، ويقال أنها كانت تحتوي على ألفي ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة(29).
ويقول العماد الأصفهاني في ذلك: (وفيها من الخطوط المنسوبة ما اختطفته الأيدي واقتطعه التعدي، وكانت كالميراث مع أمناء الأيتام، يتصرف بها بشرَه الانتهاب والالتهام)(30)، وهكذا شتتوا هذه الكتب وأضاعوها فغدت هباء منثوراً، وأتلفوا هذه الكنوز العلمية التي لم يجتمع مثلها لا قبلها ولا بعدها في مكتبة قط، وهل فعل التتار والمغول في مكتبات بغداد أكثر مما فعله صلاح الدين هذا بخزانة كتب القاهرة ومكتباتها؟.
ورغم أن نور الدين كان ولي نعمته، وهو الذي رشحه للوزارة لدى العاضد بعد وفاة أسد الدين شيركوه، إلاّ أنه لم يسلم من تنكّر صلاح الدين له والتنمر عليه في حياته، والاحتماء منه بالصليبيين، ثم القضاء على مملكته وضمها إليه بعد وفاته، لكنّ الأشد انتقاماً من نور الدين ما فعله مع ابنه (الملك الصالح).
لقد كان ابن نور الدين هذا مقيماً في حلب، وكان على صغر سنه محاطاً برعاية الحلبيين باعتباره ملكهم المقبل بعد أبيه، فكان أول ما فعله صلاح الدين بعد استيلائه على الشام، أن قصد إلى حلب للقضاء عليه.
يقول ابن الأثير: (لما ملك صلاح الدين حماة، سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح - وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة - وجمعَ أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسانَ أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه، يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق ... وبكى وأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده)(31)، ولكن صلاح الدين تمكّن منه واعتقله وعاد به إلى دمشق، ولزيادة التشفي بنور الدين وولده، تزوج زوجة نور الدين، ودخل بها وبات عندها ليلة واحدة، وخرج بعد يومين إلى مصر(32)، لقد شفت الليلة غيظه، وانتقم من نور الدين انتقام الأنذال(33).
ولا تسل بعد ذلك عن المجازر التي أوقعها صلاح الدين بأهل حلب، ولا عن الحرائق التي استهدفت منابر العلم ودور الكتب، ولا عن الإعدامات التي كانت تنتظر العلماء والحكماء، مما ملأ بطون كتب التاريخ، وكان على رأسهم جميعاً، الفيلسوف الإشراقي العظيم، شهاب الدين بن يحيى السهروردي(34) ، الذي قُتل عام 1191م خنقاً بوتر، وقيل بالسيف، وقيل سوى ذلك، وكان الفيلسوف السهروردي من أكبر علماء عصره(35)، ولا تسل كذلك عن الضرائب الباهظة والمقتطعات التي أثقلت كاهل جميع المسلمين من أهل حلب في تلك الحقبة السوداء.
وحسبك للوقوف على طريقة معاملته للشعب الذي كان يحكمه صلاح الدين، ما كتبه عنه الدكتور حسين مؤنس، وهو من أشد المتحمسين للدفاع عن صلاح الدين الأيوبي، قال: (كانت مشاريعه ومطالبه متعددة لا تنتهي، فكانت حاجته للمال لا تنتهي، وكان عماله من أقسى خلق الله على الناس، ما مرّ ببلده تاجر إلاّ قصم الجُباة ظهره، وما بدت لأي إنسان علامة من علامات اليسار، إلاّ أُنذِر بعذاب من رجال السلطان، وكان الفلاحون والضعفاء معه في جهد، ما أينعت في حقولهم ثمرة إلاّ تلقّفها الجباة، ولا سنبلة قمح إلاّ استقرت في خزائن السلطان، حتى أملق الناس في أيامه، وخلّفهم على أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصداً)(36).
ولا غرابة بعد هذا كله أن تعلم أن ولاته وعماله هم جميعاً من أمثال (قراقوش)، الذي خلّفه والياً على مصر، ليتفرغ هو لاحتلال الشام، والقضاء على ملك نور الدين زنكي، والتشفي منه.