جنّتا العدل والفضل:
وهناك وجه آخر في معنى الجنتين اللتين ينعم بهما الله تعالى على أهل خوفه وخشيته، فالجنة الأولى هي جنة العدل التي يثيبها لعبده بعدله لأنه تحمّل في سبيله شتى ألوان العذاب وصنوف الشقاء، والثانية هي جنة الفضل، يهبها الله بفضله ومنّه لعبده دون استحقاق منه، بل فوق استحقاق العبد رحمة من الله تعالى به.
ويقول البعض ان الجنتين اللتين تعطيان للمؤمن، انما يعطى الأولى منهما لينعم بها وأزواجه أما الثانية فهي لخدمه وغلمانه.
وتشتمل الجنتان على ضروب النعم وألوان الآلاء التي تشير إلى بعضها الآيات البينات التي سيرد ذكرها في ما يلي، ويكفينا لادراك أهمية الجنة للإنسان ذكر حديث شريف واحد، يقول المعصوم (ع) (لموضع سوط في الجنة افضل من الدنيا وما فيها) فتأمّل.
سعة الجنة:
ولكي نطلع على سعة الجنة وعظمتها نكتفي بذكر هذه الرواية بمضمونها وقد نقلناها عن كتاب لآلئ الأخبار وهي مرويّة عن رسول الله (ص) (استأذن جبريل من الله تعالى أن يأذن له في حساب عرض الجنة، فأذن له (علماً أن لجبريل قدرة وقوة هائلة، فهو على سبيل المثال بمقدوره أن يهبط من السماء السابعة إلى الأرض بطرفة عين واحدة) فانطلق ثلاثين ألف سنة فأصابه التعب، فسأل الله أن يمدّه بعونه، فأعانه الله، فسار ثلاثين ألف سنة أخرى، فتعب (وهكذا كل مرة يستأذن الله ويسأله العون فيمده بثلاثين ألف سنة كل مرة) إلى أن استقر به الحال في مكان في الجنة فوقف ليستريح وإذا بحورية تطل برأسها من غرفتها عليه وتسأله إلى أين تريد الذهاب؟ قال جبريل: أريد أن أبلغ منتهاها فردت عليه الحورية: لا تتعب نفسك فانك مذ شرعت في سيرك ولا زلت لم تخرج عن حدود مملكتي!! فسألها جبريل: ومن تكونين من الحور العين؟ فأجابته: أنا حورية أحد المؤمنين! تأمّلوا تلك الحقيقة، إنها والله فوق مستوى إدراكنا وأسمى من حدود فهم عقولنا، لأننا نعيش في عالم غير ذلك العالم، كما أن الجنين في بطن أمه يجهل معرفة عالمنا.
جنتا البرزخ والقيامة:
وقال العلامة المجلسي (رحمهُ الله) في شرح الكافي عند تعرضه لهذه الآية المباركة, لعل المقصود من الجنتين هما جنة البرزخ وجنة القيامة، لأن المؤمن بعدما تنزع روحه عن بدنه بالموت ترفل حينذاك هذه الروح في دلال ونعيم وسعادة في جنة البرزخ، وهي روضة مترامية الأطراف تشتمل على ألوان النعم البرزخية، وهذا الأمر تؤكده شواهد وأدلة قرآنية كثيرة، كما في قوله تعالى (قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون) (سورة يس، الآية: 26). فضلاً على جنة الآخرة الموعودة التي يخلد فيها أهلها[5].
(ذواتا أفنان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيها عينان تجريان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهما من كل فاكهة زوجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنا الجنتين دان). (سورة الرحمن الآيات: 48 ـ 54).
جنتان كثيفتان:
(ذواتا أفنان) أي اشتمال الجنتين على الشجر الكثير ذو الأغصان المتشابكة والأوراق الكثيرة. ومعنى كلمة (ذواتا) هو صاحبتا أي انهما يشتملان ويحتويان، (أفنان) وهي جمع فنن وهو الغصن، وعليه يكون معنى الآية أن الجنتين معمورتان بالأشجار ذوات الأغصان، فهما كثيفتان ومليئتان بالثمار والفواكه كما سيأتي ذلك في الآيات اللاحقة، ومن البديهي أن يكون وجود الأغصان الكثيرة المملوءة بالأوراق دليلاً على غناها بالثمار الكثيرة أيضاً.
وقد ورد معنىً آخر لكلمة أفنان وهو جمع لفنن، والفنن هو النوع، وعليه يكون معنى الآية هو (ذواتا أنواع مختلفة من الشجر والنعم)، فأشجار الجنتين تحتمل الثمار والفواكه الكثيرة والمتنوعة بطعومها وأشكالها.
عينان من الرحمة تجريان بدموع الخوف والرجاء:
(فيها عنان تجريان) أي وتحتوي الجنتان على عيني ماء جاريتان، وقال البعض ان العينين تجريان بماء وشراب الجنة، وقال آخرون إن هاتين العينين هما من عيون الرحمة الإلهية التي تعبر عن عيني المؤمن اللتان جرتا بدموع الخوف والرجاء في دار الدنيا، فتمثلتا في الجنة عل هيئة عيون الرحمة، وقد ذكرت التفاسير إن اسمي هاتين العينين هما: سلسبيل وتسنيم، واصل هاتين العنيني يصدر من بيت رسول الله (ص) في الجنة.
فيهما من كل فاكهة نوعان:
(فيهما من كل فاكهة زوجان)، وتشتمل الجنتان على الكثير من الثمار والفواكه، ولكل ثمرة نوعان اما عن وجوه معاني هذه الزوجية أو العددية في الفواكه فقد وردت عدة وجوه في ذلك نشير على أهمها:
الوجه الأول: يقال إن الفواكه الموجودة في الجنتين، هي من فواكه الدنيا المعروفة، وهما على شكلين، أحدهما رطب والآخر مجفف، كالعنب والزبيب، والتمر والرطب، ونحو ذلك.
الوجه الثاني: إن الفواكه التي تحتويهما الجنتين هي فواكه متعددة الأنواع، يشتمل كل نوع منها على زوجين، لكل زوج منه لون خاص يختلف عن الزوج الآخر.
الوجه الثالث: أن يكون المراد بالزوجين هو وجود نوعين من الفاكهة الواحدة، أحدهما معروف ومألوف لدينا في دار الدنيا والآخرة نعرفه ولم نره.
في الجنة ينعدم اللون الأسود والطعم المر:
وقد ورد عن ابن عباس في شأن تفسير هذه الآية قوله إن في الجنة جميع ثمار الدنيا وفواكهها، مرّها وحلوها ولكن الثمار المرّة تفقد خاصية مرارتها في الجنة، فالجنة لا تحتوي على ثمار وأطعمة مرة، ولا مكان للون الأسود فيها أيضاً.
وعندما يقال إن الجنة تحتوي على جميع ثمار وفواكه الدنيا فليس المقصود به ان الجنة تشتمل على هذه الثمار والفواكه بذاتها، وانما يقصد بذلك وجود نظائر فواكه الدنيا من حيث الشكل ولكنه يختلف تماماً عما في الدنيا من حيث طعمه، فطعم ثمرة الدنيا طعم واحد، بينما ثمار الجنة يكون لكل ثمرة فيها طعوم متعددة (مائة ألف طعم)، وفي الجنة توجد الأشياء المشتملة على المتفرقات فثمرة الجنة لها مائة ألف طعم يتحسس المرء لذة كل طعم لوحده في آن واحد مما لا يكون مثيله في الدنيا. ولعل بعضنا ذاق طعم فواكه البرزخ انه يقظة أو في المنام، وهذه القصة انموذج لذلك.
شفاء العلامة المجلسي وشرحه للزيارة الجامعة:
كتب المجلسي الأول في معرض شرحه لكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق قائلاً: وقعت في أحد الأيام طريح فراش المرض، فتدهورت أحوالي وساءت صحتي وأحسست بيأسي من الحياة إثر ذلك المرض العضال، وحينها أُغشي عليّ وأنا مسجىً باتجاه القبلة فتراءت لي خمسة أنوار قدسية هي أنوار النبي (ص) وأمير المؤمنين والزهراء والحسنين (ع)، فدنوا مني، فأجهشت بالبكاء وأظهرت لهم توجعّي، فقالوا لي: لا تخف ثم ناولوني شيئاً من شواء كان معهم، فأكلته وإذا بي أحس له مائة ألف طعم، فسألتهم أهو من طعام الجنة ذي المائة ألف طعم؟ فأجابوني: نعم، وهنا سألت رسول الله (ص): دلني يا رسول الله على سبيل النجاة، فقال لي: عليك بأهل بيتي.
لذلك انشغل (رض) بشرح الزيارة الجامعة بعد أن منّ عليه الله (عز وجل) بالشفاء ببركة أهل البيت (ع).
دواعي وجود الفواصل بين الأوصاف الثلاث:
ولعل هذا التساؤل يدور في خلد البعض وهو (لماذا جاءت الفواصل بين الآيات الكريمة (ذواتا أفنان) و (فيهما عينان تجريان) و (فيهما من كل فاكهة زوجان) مع أنهن صفات لموصوف واحد هو (جنتان)؟ والرد بظننا يشبعه هذين الوجهين:
الوجه الأول لما كان المقام هو مقام ذكر النعمة، كان طويل الحديث أجمل وأشيق، يقال ان (وصف العيش نصف العيش) أو كما يقول المثل الفارسي (كلمّا طال الحديث العذب صار أعذب). بينما نجد في آية العذاب السابقة، وجود آيتين لم تقع بينهما الفاصلة (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن) والسبب في ذلك هو أن الآيات المشتملات على وصف الجنة تؤالف رغبة السامع وتشوّقه إليه، لذلك جاء الفصل لتشويق السامع.
إنكار الصفة يوجب الكفر كإنكار الموصوف:
الوجه الثاني: جاء الفصل بين الآيات باعتبار ان انكار الموصوف وهو الجنة يخالف مقتضى العقل فيوجب بذلك الكفر، وان انكار خصوصيات الموصوف التي جاء بها القرآن الكريم يوجب الكفر أيضاً باعتباره إنكاراً لضروري من ضروريات الدين، فعندما ينكر المرء وجود الجنة فيقول أية جنة هذه؟! أو يقول عن الحور: أية حور تلك؟! أو عن الفاكهة وثمار الجنة، أي فاكهة تلك؟! منكراً، فهو حينئذ يعرب عن عدم قبوله لي من تلك النعم المتمثلة بالجنة أو بنعم الجنة الضمنية، وهذا الانكار بحد ذاته كفر، لذلك جاءت الفواصل بعد كل آية من آيات النعم بقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان)! بنعمة أشجار الجنة ذوات الأفنان تكفران؟! أم بنعمة العينين الجاريتين تجحدان؟! أم بنعمة تعدد ضروب الفواكه والثمار ووجود الزوجين من كل ثمرة لا تؤمنان؟!
أيّهما أهم، أخبار المنجّم أم أخبار القرآن؟
والآن بعد أن مرت علينا بعض الآيات المشتملة على الأخبار الغيبية القرآنية، فهذه الأخبار تحدثت عن أمور تقع خارج حدود إدراك حواسنا (كما في عرض الجنة، أشجارها، وعيون الماء فيها) مما ذكره القرآن الكريم أو ما تناولته أحاديث أهل البيت (ع). ترى هل أن هذه الأخبار القرآنية أقل شأناً وأدنى أهمية من أقوال علماء الفلك؟ هل سألنا أنفسنا يوماً لماذا نحن نصدق ونؤمن بل نقطع بصحة ما يقوله عالم الفلك أو المنجّم حتى وان كان قوله عجيباً أو غريباً، بينما نتردد في الجزم والقطع بصحة ما يخبرنا به القرآن العظيم والنبي الكريم (ص) والأئمة الطاهرين (ع)؟!
لماذا نحن نصدق ودون تردد ما يقوله الفلكي من أن نور الشمس يصل إلى الأرض في غضون سبع دقائق ونصف الدقيقة، ونؤمن بما يؤكدّه عالم الفلك من أن بعض الأجرام والكواكب تبعد عن كوكبنا (الأرض) مسافة ألف سنة ضوئية، بل أن بعض الكواكب أو الشموس الموجودة في هذا الكون الرحب لم يصلنا نورها منذ أن خلقها الله عز وجل لفرط بعدها الشاسع عن كوكبنا!؟
ونتردد في تصديق سعة الجنة أو عرضها!! رغم أن ما يقوله العلماء والمنجمون يستند في الأغلب على الحدس والتقدير والحساب، وبينما ما يخبرنا به الأنبياء والأئمة (ع) يستند إلى المشاهدة الحيّة أو الأخبار بالواسطة عن رب العالمين، فنبينا محمد (ص) عرج به إلى السماء ووطأ أرض الجنة بقدميه الشريفتين وذاق طعم ثمارها بفمه الطاهر، ولعل حادثة أكله (ص) من تفاح الجنة التي كانت سبب انعقاد نطفة الزهراء فاطمة (ع) قد سمعتموها كثيراً وهي دليل يضاف إلى ما لا يحصى من الدلائل على هذه الحقيقة.
متكأ بطانته الديباج:
(متكئين على فرش) أي أن الذين يخافون مقام ربهم لهم جنتان فيها فرش قد اتكأوا عليها، و (متكئين) صفة للخائفين من مقام الرب، فهم في الجنة كالملوك والسلاطين قد اتكأوا على (فرش وهي جمع فراش وهو ما يفترشه المرء للجلوس أو الاستناد إليه في جلوسه.
والنقطة اللطيفة في هذه الآية هي اننا لو حاولنا أن نفهم ماهية وكيفية هذه الفرش والمتكئات لما حزنا إليها سبيلاً، بل لا نستطيع أن ندرك بطائن تلك الفرش.
(بطائنها من استبرق) وكلمة بطائن مشتقة من بطن وباطن، وهي تعني المادة التي تبطّن الأقمشة عادة فتستبطنها، أما (الاستبرق) فهو ما نصطلح عليه بالحرير الصيني أو ما يسمى بالديباج، وهو ألطف وأنعم أنواع الحرير، ولعل تسميته بالأستبرق ناشئة عن بريق البرق الأخّاذ، وقيل عن اصل مادة بطائن الاستبرق انه النور، ولكن ورد عن سعيد بن جبير هذا المفسر الجليل عندما سئل عن مادة بطائن الاستبرق قال: لو كان يمكن توضيح هذا الأمر لبيّنه الله عز وجل في كتابه الكريم. وهذا يكفي لوحده كدليل على أن الاستبرق لا يمكن وصفه، يقول تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين جزاءً بما كانوا يعملون). (سورة السجدة، الآية: 17).
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير نور الثقلين (ج5، ص197).
[2] راجع قصة حميد بن قحطبة وقتله لمائة علوي في ليلة واحدة بأمر هارون الخليفة المذكورة في كتاب الذنوب الكبيرة ـ الجزء الأول لسماحة السيد المؤلف (رحمة الله) مع ان الإمام علي أمير المؤمنين (ع).
[3] تفسير نور الثقلين (ج5، ص197).
[4] راجع كتاب الذنوب الكبيرة ـ مبحث الشرك ن وكتاب القلب السليم مبحث العقائد للاستزادة. وهما من تأليف سماحة السيد المؤلف(رض).
[5] لمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع إلى كتابي قلب القرآن في تفسير سورة يس والمعاد في فضل البرزخ وهما من آثار السيد المؤلف(رض).
من كتاب جنة الخلد
السيد عبد الحسين دستغيب